في قصيدة «لا شيء يعجبني» للشاعر محمود درويش كثافة رمزية شديدة شأن غالب قصائده، تبدأ هذه الرمزية من رمزية الباص، الذي يعادل موضوعيًّا مسيرة الحياة الإنسانية بتنوعها، فالباص رمز حياة الطبقة المتوسطة والأقل؛ لأنهم أكثر الفئات استخدامًا له، كما أنه رمز التنوع والاختلاف المنسجم؛ فيتصاحب فيه أطياف شتَّى، وثقافات شتَّى، وطباع شتَّى، رغم أن الوجهة واحدة وإن اختلفت المحطات.
وهناك تنوع منسجم خارج الباص؛ من حيث تنوع المشاهد التي يمر عليها الباص في طريقه؛ من بنايات حجرية، وأشجار، وأرصفة، وبشر، وحركة حياة…، ولكن الشاعر لم يلفت النظر لأٍّي من هذه المشاهد الخارجية، وانصب التركيز على تنوع الانسجام داخل الباص، وهذا في حد ذاته دليل على رفض الحياة، ورفض النظر خارج الإطار التشاؤمي الذي أحاط بالقصيدة من جميع جوانبها، ولم يلتفتوا جميعًا لما يجري خارج الباص إلا عندما أعلمهم السائق بالوصول للمحطة الأخيرة التي هي أيضًا معادل موضوعي للموت ونهاية الأجل، والوقوف فيها يعني انقطاع المشاهد الخارجية التي كان يمكنهم التمتع بها، أو على الأقل التسلي بها عن التفكير في الهموم.
وهناك رمزية الأشخاص الذين يركبون الباص، وهم:
أولا: مسافر يظهر من اهتماماته أنه رجل مثقف ذو همٍّ عام وليس ذا همٍّ شخصيٍّ محدود، فمن اهتماماته الجريدة الصباحية، وهي رمز للأخبار المقروءة التي لا تعجب المسافر المثقف؛ رغم تنوعها بين رياضة واقتصاد وسياسة وثقافة واهتمامات متنوعة، ومن اهتماماته الراديو وما يحمله من رمزية الأخبار المسموعة والثقافة والمنوعات والمحطات المختلفة التي تتيح بدائل وخيارات أكثر من الصحيفة الصباحية، والقلاع التي شيدت على التلال التي هي معادل موضوعي للثقافة التاريخية، وشحنة الماضي المجيد، والذي يجعلنا نطمئن إلى أنه ماضٍ مجيد في نظر هذا المسافر المثقف أن القلاع ما زالت قائمة، وقائمة في مكان مرتفع شامخ “التلال”؛ مما يعني الانتصار الموغل في القدم والذي ترك رسالة خالدة جلية تدل على هذا الانتصار، ورغم ذلك أصبحت هذه الرسالة سببًا في تشاؤم المثقف؛ لأنها تحث العقل على المقارنة بين رسالتها ورسالة الجريدة والراديو، ورغم هذا التشاؤم والرفض حدَّ البكاء فإنه ما زال متمسِّكًا بالحياة، ويرفض النزول في محطته، ويطلب أجلا أطول رغم أن الحياة لا تعجيه!
وقدَّم الشاعرُ المثقفَ في أول القصيدة؛ لأنه الأقدر على التعبير، ولأنه يحمل الهمَّ الأعمِّ، وقد فتح باب القول لبقية من في الباص؛ فتشجعوا وعبَّروا عن همومهم سواء كانت همومًا عامة أم همومًا شخصية.
“لا شيء يعجبني.
يقول مسافرٌ في الباصِ – لا الراديو
ولا صُحُفُ الصباح، ولا القلاعُ على التلال.
أُريد أن أبكي”
ثانيًا: السيدة: وذكرها الشاعر بصيغة النكرة؛ لتعبر عن عموم النساء، وتشمل كل أنثى، ولم يصفها بصفات أنثوية محددة غير أنها سيدة ثكلى، كبيرة في السن، ربَّت ابنًا حتى انتهت مهمتها باستوائه، وأرشدته إلى القبر الذي تحب أن تُدفن فيه، مما يعني أنها كانت مستعدة للموت من قبل، ورغم ذلك كان رفضها للحياة رفضًا مشوبًا بالرغبة في البقاء، حيث رفضت النزول في المحطة الأخيرة وطلبت أجلاً أطول، مثلها مثل الرجل المثقف، رغم أن الموت بالنسبة لها يعني لقاءً بابنها الفقيد، وموقفها من الموت مخالف لموقف ابنها الذي أعجبه القبر مبكرًا وتعجل في اختياره حتى أنه لم يودِّع أمَّه!
“تقول سيدةٌ: أَنا أَيضًا. أنا لا
شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ ابني على قبري،
فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني”
ثالثًا: الجامعي: الذي هو معادل موضوعي للعِلْم؛ الذي هو أعلى درجة من المثقف، واختاره درويش أن يكون متخصصًا في علم الآثار؛ لأنه الأدرى بالتاريخ، وهمه هو البحث عن الهوية والانتماء، ورغم ذلك تشوَّشت هويته لاختلاف الواقع عن الماضي، وهو يشترك مع المثقف في هذا الهم.
“يقول الجامعيُّ: ولا أَنا، لا شيءَ
يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن
أَجِدَ الهُوِيَّةَ في الحجارة. هل أنا
حقًّا أَنا؟”
رابعًا: الجندي: وهو رمز للشباب والقوة والفتوة، وهمُّه المحاصرة التي لا تنتهي، لا يعرف من يحاصِر، وهو يُحاصِر ويُحاصَر في آنٍ؛ ترقُّبٌ وإرهاقٌ مستمرٌّ، معارك وهمية يُوظَّف فيها من غير حول له ولا قوة، وهو همٌّ جزئيٌّ بسيط، وصاحبه معذور في رفض النزول في المحطة الأخيرة؛ فما زال عنده الأمل في أن يخرج من هذا الهمِّ البسيط المؤقَّت.
“ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضًا. أَنا لا
شيءَ يُعْجبُني. أُحاصِرُ دائمًا شَبَحًا
يُحاصِرُني”
خامسًا: شخصية السائق: ووصفه الشاعر بصفة صريحة وهي صفة “العصبي”، وظهر صوته في القصيدة مرتين: الأولى في أول القصيدة في الرد على المسافر المثقف ردَّا يوحي بعدم الاكتراث لمشاعر الآخرين، وعدم التجاوب لهم ومواساتهم، وفظاظته، فكان ردُّه:
” انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ،
وابْكِ وحدك ما استطعتَ”
والظهور الثاني قبل آخر القصيدة مؤذنًا بالوصول إلى المحطة الأخيرة:
“يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن
اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا
للنزول”
والواضح أن الشاعر أراده المعادل الموضوعي لملك الموت؛ وكان يجب أن يعيد النظر في وصفه بالعصبي.
سادسًا: شخصية الشاعر التي ظهرت جلية دون أن تتدارى خلف شخصية أخرى، والسبب الذي شجعها على هذا الظهور الجلي هو أنها ظهرت في موقف شجاع؛ فرفض السابقين كان رفضًا لم يمنعهم من الرغبة في الاستمرار في الحياة، رفضا مهزوزًا متردِّدًا؛ إذ صرخوا جميعًا عند إعلام السائق إياهم باقتراب المحطة الأخيرة:
“نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ،
فانطلق!”
أما رفض الشاعر فكان رفضًا حقيقيًّا شجاعًا، ورغبة في عدم الاستمرار، يلمح فيه قول المتنبي:
إذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدِّ … فَمِنَ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا
رغم أنه لم يفصح عن الذي لا يعجبه تحديدًا، واكتفى بالرفض العام الشامل: “لا شيء يعجبني”، وذكر أنه “تعِب من السفر”، ولم يفصح عن سبب هذا التعب! مما يعني أنه تعب شامل حقيقي، وهمٌّ عام يفوق ما تحمله الشخصيات الأخرى في القصيدة:
“أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا. أنا
مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ
من السَّفر”.
وانتهت القصيدة تاركةً لنا توقُّع رد السائق، هل أنزل الشاعر وحده واستمر بالآخرين، أم أنزلهم جميعًا؛ راغبَهم ورافضَهم؟ والمؤكَّدُ الأخير! لأن الموت موقوت محدد سلفًا وليس اختيارًا!
وإذا المنيّةُ أنْشَبَتْ أَظْفارَها أَلْفَيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
د. محمد علي عطا
رئيس قسم اللغة العربية وعلومها
جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا