الإثنين 16 سبتمبر 2024
الايام المصرية
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

الشيخ محمد رفعت “قيثارة السماء”، افتتحت إذاعة القرآن الكريم بصوته (صور)

الايام المصرية

يواكب التاسع من مايو، ذكرى الميلاد والرحيل، وبينهما رحلة 68 عامًا صنعت مسيرة أعظم قراء القرآن الكريم، ورأس المدرسة المصرية في فن التلاوة، حتى قيل “إن القرآن الكريم نزل بالحجاز، وقُرئ في مصر”.. إنه الشيخ محمد رفعت الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده ورحيله معًا والتي توافق يوم 9 مايو عام 1950.

وُلد “قيثارة السماء” بحي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة عام 1882م، اسمه محمد رفعت محمود رفعت، والده كان مأمور قسم الخليفة، وفى سن الثانية أُصيب الشيخ رفعت بمرض في عينيه، نتيجة حسد إحدى النساء، إذ قالت لوالدته “إنه يملك عين الملوك”؛ نظرًا لجمال عينيه اللامعتين، وفى اليوم التالي استيقظ الطفل على صراخ شديد لشدة الألم في عينيه ليكُف بصره.

ونذر الأب المكلوم محمود بك رفعت نجله، لخدمة القرآن الكريم، فألحقه بكُتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز، بحي السيدة زينب؛ ليحفظ آيات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فأتم حفظ كتاب الله قبل سن العاشرة.

وفي سن التاسعة فقد الشيخ رفعت والده، بعد بفقدان بصره، ليجد نفسه عائلاً لأسرته، فالتجأ إلى القرآن الكريم، حيث وجد في كتاب الله حصنًا يقيه الفقر، وأكسبه القرآن الكريم المزيد من البصيرة التي عوضته خيرًا عن فقدان البصر.

جلس الشيخ الصغير للتلاوة في مسجد “فاضل باشا” ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وما أن انقضى العام حتى منحه شيخه، إجازة في تلاوة القرآن الكريم مرتلًا ومجودًا، وأصبح محمد رفعت مسئولًا عن قراءة القرآن الكريم يوم الجمعة، واستقطب صوته الشجي الجميل جموع المصلين، وضجت ساحة مسجد فاضل باشا والطرقات المحيطة به بعشاق صوت الشيخ رفعت.

وأصبح الشيخ محمد رفعت، من أعظم الأصوات التي قرأت القرآن الكريم في القرن العشرين، فصوته يفسر الآيات بأسلوب يجمع بين الخشوع وقوة التأثير، فوضع لنفسه أسلوبًا فريدُا في التلاوة.

وامتلك الشيخ محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة، بين المقامات الموسيقية للقرآن الكريم، بل امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب في كتاب الله ـ عز وجل.

فقد أوتي مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فكان صوته قويًا لدرجة يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من 3 آلاف شخص في الأماكن المفتوحة.

وظل الشيخ محمد رفعت يقرأ القرآن الكريم في مسجد فاضل باشا قرابة ثلاثين عامًا؛ وفاءً منه للمسجد الذي نشأ فيه، ومنذ تلك اللحظة أصبح الشيخ رفعت يقرأ القرآن الكريم، في السهرات والمناسبات الدينية والأفراح والمآتم.

وعند افتتاح الإذاعة المصرية في 31 مايو عام 1934م، رشح البرنس محمد علي توفيق “ولي عهد الديار المصرية آنذاك” الشيخ محمد رفعت لافتتاح الإذاعة المصرية، عبر قراءة آيات بينات من الذكر الحكيم.

تردد الشيخ رفعت كثيرًا عندما عُرض عليه الأمر، فخشي ألا يُعطي الناس لتلاوة القرآن حقها من الإنصات والجلال، فاستفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري، عن جواز إذاعة القرآن الكريم، فأفتى له بجواز ذلك، فكان أول قارئ للقرآن الكريم في الإذاعة المصرية.

وأعلن الفنان أحمد سالم، انطلاق البث اللاسلكي للإذاعة، من خلال مقولته الشهيرة “هنا القاهرة”، حتى افتتح البث الإذاعي بصوت الشيخ محمد رفعت، لآيات من سورة الفتح “إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَمِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ”، وبهذا قد وضع الشيخ رفعت تقليدًا لا يزال معمولًا به في الإذاعة حتى يومنا هذا، إذ يبدأ بث الإذاعات بآيات من القرآن الكريم.

ومع كل تسجيل إذاعي جديد، كان الشيخ رفعت يأوي منفردًا إلى حجرة قبل التسجيل يدرب صوته على الوصول إلى المقامات الموسيقية، وكأنه يُسجل لأول مرة، وهو الشيخ المُحنك الذي أمضى عمره بين التلاوة والتواشيح، وكان أداؤه نديًا خاشعًا، وكأنه يروي قلوبًا عطشى لسماع القرآن الكريم، وكأن آذان الناس تسمعه للمرة الأولى.

وفى بداية مرض الشيخ رفعت، سجل للإذاعة سور الكهف ومريم ويونس، لتكون آخر عهده بتسجيلات الإذاعة، التي لا تزال تذيعها حتى يومنا هذا، وبعد مرضه استعانت الإذاعة بالشيخ أبوالعينين شعيشع، لاستكمال بعض الأجزاء التي لم يتمها الشيخ رفعت فى السور المذكورة، إذ إن صوت الشيخ شعيشع كان شديد الشبه بصوت شيخ القراء محمد رفعت.

ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، تنافست إذاعات القوى العظمى، مثل إذاعتي لندن وباريس وبرلين، على أن يُسجل لها الشيخ محمد رفعت لتجذب المستمعين، خلال افتتاحية برامجها باللغة العربية.

فرفض الشيخ محمد رفعت لأمرين، أولهما أنه لا يحب التكسب بقراءة القرآن الكريم، وخوفًا من أن يستمع الناس إلى القرآن الكريم في الملاهي والحانات، وبعد مراجعة الإمام محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر آنذاك، وافق الشيخ رفعت على تسجيل سورة مريم لإذاعة “بي بي سي البريطانية”.

وهاجم المرض الشيخ محمد رفعت مع بداية عام 1943م، في أثمن ما يمتلك، فقد أصبح صوته الذهبي رهينًا لـ “الزُغطة”، وحار الأطباء في هذا المرض، الذي هدد “قيثارة السماء” عن معاودة التلاوة، فذهب إلى العديد من الأطباء، دون أن يجد علاجًا ناجعًا، ليقطع سبع سنوات أفضت به إلى سرطان الحنجرة.

في البداية لازمت “الزُغطة” الشيخ لساعات طويلة، وصلت إلى ثلاث ساعات متصلة، ومع هذا لازم الذهاب إلى الإذاعة يومي الاثنين والجمعة حتى عام 1948م، وفى أحدى المرات داهمه المرض خلال التسجيل الإذاعي، فامتنع عن الذهاب إلى الإذاعة، حيث أراد أن يحتفظ الناس بالصوت الذي عهدوه شجيًا خاشعًا، ينقلهم من ظلام العصيان لرحابة الغفران، فقرر العودة من حيث بدأ.. عاود الجلوس للقراءة في مسجد “فاضل باشا” بدرب الجماميز.

وفي رمضان كانت الناس تترقب صوت الشيخ رفعت، الذي أبى إلا أن يأتيهم مسجلًا على أثير الإذاعة، ليعيد الذكرى إلى الملايين التي عشقت هذا الصوت الرخيم، وعندما اشتد به المرض، دعا الأستاذ أحمد الصاوي، محمد رئيس تحرير الأهرام إلى اكتتاب شعبي لعلاج الشيخ رفعت، فبلغت حصيلة التبرعات 50 ألف جنيه أرسلها آلاف المعجبين بصوت الشيخ محمد رفعت، إلا أنه رفض قائلا: “أنا مستور الحال والحمد لله.. ولست في الحالة التي تستوجب جمع كل تلك الأموال، والأطباء لن يستطيعوا وقف المرض دون إرادة الله”.

وكتب الشيخ رفعت خطابًا للأستاذ أحمد الصاوي قائلا: “اعتذر عن قبول هذه التبرعات، فالله وحده القادر على شفائي، واشكر كل الذين جمعوا لي هذه التبرعات”.. وإذ رفض الشيخ رفعت تبرعات محبيه، فقد رد أيضًا عروض ملوك وحكام العالمين العربى والإسلامى بالعلاج، وعلى رأسهم الملك فاروق، وكان يقول “قارئ القرآن لا يُهان”، قبل أن يتوفاه الله في التاسع من مايو عام 1950م.

حظي الشيخ رفعت بمكانته كقامة مصرية كبيرة، إذ يقول عنه الأديب محمد المويلحي: “سيد قراء هذا الزمن، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا”.

وقال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب: “كنت صديقًا للشيخ محمد رفعت، فإذا ما قرأ القرآن الكريم انقلب الصديق إلى خادم، فأجلس تحت قدميه، لأنه يُشعرك حين يقرأ القرآن الكريم، بأنه يخاطب الله بين يديه، فلا تدري إن كان صوته قد اختلط بالإيمان أم أن الإيمان قد اختلط بصوته”.

ويتحدث الفنان الكوميدي نجيب الريحاني، في مذكراته عن الشيخ محمد رفعت فيقول: “لابد أن أعترف بفضل القرآن على تفكيرى وطريقة عملى، فقد قرأته مترجمًا بالفرنسية عدة مرات، ثم أتصلت بالإمام المراغى شيخ الجامع الأزهر، فسهل لى قرائته بالعربية، وأعطانى من أجل هذه الرسالة السامية الكثير، ومن القرآن تعلمت الكثير، تعلمت الصبر والجلد والشجاعة والقسوة فى الحق وحب الفقير والنزعة إلى عمل الخير”.

ويكمل الريحاني:”ولما قرأت القرآن مترجمًا بالفرنسية وبالعربية أردت أن أستمع اليه مرتلاً، وكنت أستمع من حين لآخر للقرآن، حتى أستمعت ذات ليلة فى منزل أحد الأصدقاء إلى تلاوة منه بصوت الشيخ محمد رفعت، وما كاد هذا الصوت ينساب إلى صدرى، حتى صممت على لقاء الشيخ رفعت، وفعلًا التقيت به أكثر من مرة وتصادقنا.. والشيخ محمد رفعت غير صفته كقارىء معروف، كان عالمًا كبيرًا له العديد من الأراء فى مختلف القضايا، أما صوته فهو الخلود بعينه، صوت له نبرات أحتار فى فهمها العلماء، وسألت عبد الوهاب يومًا عن سر حلاوة هذا الصوت، فقال: “إنها منحه إلهية وعبقرية لن تتكرر بعد الآن” .

وأضاف الريحاني في مذكراته:”كان الشيخ رفعت يقرأ القرآن فى جامع صغير بشارع درب الجماميز، وكنت أذهب الى هناك فى العديد من أيام الجُمع لأسمع هذا الصوت الخالد الحنون، الذى هز كِيانى، وقلب كل معنوياتى وجعلنى أقدس هذه الحنجرة الغالية الخالدة المرهفة، وهى ترتل أجمل المعانى وأرقها وأحلاها.. وكانت هناك هواية تربطنى بالشيخ رفعت، فأنا وهو كنا نحب ركوب الحنطور، وكنت أدعوه كثيرًا للتنزه فى حنطورى، إن صوت الشيخ محمد رفعت كما قال لي عبد الوهاب (صوت من معدن خاص لن يجود به الزمان بعد ذلك).

وأبدع ما قيل فى الشيخ رفعت ما ذكره الإمام الشعراوي – رحمة الله عليه – في تقديمه لكتاب “ألحان السماء” للكاتب محمود السعدني.

حيث قال:”إن هذه الكتيبة من القراء الذين شدوا بألحان السماء، وبتأليف الله لهم، لم يكونوا مكررين لا أداءً، ولا أصواتًا، ولا لحنًا، بل لكل واحد منهم نغم يخدم النص، فمنهم قمة الأحكام كالحصري مثلا، ومنهم قمة الصوت الجميل كعبدالباسط عبدالصمد.

ومنهم قمة الفن الرفيع الرائع المستحيل الجميل كمصطفى إسماعيل، وم

نهم جامع كل ذلك في ائتلاف لا يرتفع فيه فن على فن كالشيخ محمد رفعت، فهو كل هؤلاء جميعًا، ويزيد أنه عالم بما يقرأ، تستطيع أن تفهمه بمجرد نطقه للكلمة، ولمحبيه”.

2024 638508723486924084 692 الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"، افتتحت إذاعة القرآن الكريم بصوته (صور) 2024 638508719618230354 823 الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"، افتتحت إذاعة القرآن الكريم بصوته (صور)

2024 638508718052981686 298 الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"، افتتحت إذاعة القرآن الكريم بصوته (صور)

2024 638508718055797711 579 الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"، افتتحت إذاعة القرآن الكريم بصوته (صور)

 

 

 

2024 638508718054234929 423 الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"، افتتحت إذاعة القرآن الكريم بصوته (صور)

تم نسخ الرابط