الإثنين 16 سبتمبر 2024
الايام المصرية
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

صناعة الموضة.. من الصناعات التي تندرج ضمن الثقافة السائلة وتتميز بالتغير السريع وعدم الاستقرار، حيث لا تبقى الأمور ثابتة أو مستقرة لفترة طويلة. 

في هذا النوع من الثقافة، تتغير الأذواق والموضات والأفكار بسرعة، مما يجعل من الصعب على الأفراد التكيف مع قواعد ثابتة أو استقرار دائم، كما تساهم التكنولوجيا الحديثة والسوشيال ميديا والمنصات الرقمية بشكل كبير في تسريع تدفق المعلومات وتغيير الأذواق، حيث تخلق التطبيقات والوسائط الاجتماعية بيئة تتسم بالتغير المستمر وتعزز من طابع "السيولة" في الثقافة.

بدلاً من التركيز على القيم الجماعية الثابتة، تركز الثقافة السائلة على تجارب الأفراد ورغباتهم الشخصية. تصبح الثقافة أكثر توجهًا نحو تلبية الاحتياجات الفورية واللحظية للأفراد بدلاً من الاستمرار في القيم الطويلة الأمد. في هذا السياق، تصبح الهوية أيضًا أكثر سيولة وغير ثابتة، حيث يمكن للأفراد إعادة تعريف أنفسهم وتغيير هوياتهم بشكل متكرر بناءً على التغيرات في بيئتهم الاجتماعية والثقافية. وهذا قد يجعل العلاقات الاجتماعية أكثر سطحية وغير دائمة، حيث قد يميل الأفراد إلى تغيير علاقاتهم أو الابتعاد عن الروابط الثابتة.

في ضوء ذلك، تلعب الموضة والملابس والأزياء دورًا كبيرًا في تحديد الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات. فكل مجتمع يطور أسلوبًا مميزًا في الملابس يعكس تاريخه وتراثه. بالإضافة إلى ذلك، تعكس الملابس الوضع الاجتماعي والمكانة الاقتصادية للأفراد. في بعض المجتمعات، تُستخدم الملابس كوسيلة للتعبير عن الطبقات الاجتماعية، حيث قد تكون الملابس الفاخرة والعلامات التجارية الراقية رموزًا للثروة والطبقة الاجتماعية العالية.أعلى النموذج

شركات الموضة وتأثيرها الخطير على المجتمع

وتعد شركات الموضة، على الرغم من كونها جزءاً أساسياً من عالم الأزياء وتؤثر على الثقافة والمجتمع، إلا أنها تحمل بعض المخاطر والتحديات التي يمكن أن تكون ضارة على عدة مستويات:

المخاطر البيئية:

صناعة الموضة تساهم بشكل كبير في التلوث البيئي، حيث يتطلب تصنيع الملابس كميات هائلة من المياه والمواد الكيميائية. استخدام الأصباغ والمواد الكيميائية يمكن أن يؤدي إلى تلوث المسطحات المائية والتربة. حيث تقدر صناعة الأزياء بأنها مسؤولة عن 10 ٪ من انبعاثات الكربون العالمية - أكثر من الرحلات الدولية والشحن البحري مجتمعة.

يقوم تجار التجزئة بالملابس مثل Zara و Forever 21 و H&M إلى جعل ملابس رخيصة وعصرية لتلبية احتياجات المستهلكين الشباب. ومع ذلك ، فإن الموضة السريعة لها تأثير بيئي كبير، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) ، فإن الصناعة هي ثاني أكبر مستهلك للمياه وهي مسؤولة عن حوالي

 10 ٪ من انبعاثات الكربون العالمية-أكثر من جميع الرحلات الدولية والشحن البحري مجتمعة. لسوء الحظ ، غالبًا ما يتم تجاهل مشاكل الموضة السريعة من قبل المستهلكين.

وفقًا لوكالة البيئة الأوروبية ، أنتجت عمليات شراء النسيج في الاتحاد الأوروبي في عام 2020 حوالي 270 كجم من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للشخص الواحد. وهذا يعني أن منتجات النسيج المستهلكة في الاتحاد الأوروبي التي تولدها انبعاثات غازات الدفيئة تبلغ 121 مليون طن.

تساهم الملابس التي يتم التخلص منها بشكل دوري في زيادة النفايات الصلبة، إذ تنتهي معظمها في المكبات، حيث تستغرق وقتاً طويلاً لتتحلل، مما يضغط على البيئة بشكل أكبر. وقد شهدت طرق التخلص من الملابس غير المرغوب فيها تحولاً، حيث يتم إلقاء الكثير منها بدلاً من التبرع بها، مما يساهم في جمع أقل من نصف الملابس المستعملة لإعادة استخدامها أو إعادة تدويرها، ويُعاد تدوير 1٪ فقط منها إلى ملابس جديدة. لكن، تقنيات جديدة لإعادة تدوير الملابس إلى ألياف جديدة بدأت تظهر.

تتسبب الأصباغ السامة والنفايات الصناعية في تلويث المسطحات المائية، كما هو الحال في بنغلاديش، حيث أفادت تقارير بأن 1/5 من نفايات المياه تأتي من صناعة الأزياء، وفقاً لشبكة CNN ، تلونت مياه نهر بوريجانجا بالأسود على مدار معظم السنة بسبب تلوثها بالأصباغ، مما أثر بشكل كبير على السكان الذين يعتمدون على هذا النهر لمياه الشرب والصيد.

علاوة على ذلك، تعاني بنغلاديش من تراكم البلاستيك في مكبات النفايات ومصادر المياه والشوارع بسبب عدم التخلص السليم من النفايات. وفقاً لوزارة البيئة في بنغلاديش، يتم إطلاق 21600 متر مكعب من النفايات السامة والقمامة في نهر بوريجانجا يومياً. ويعتبر إنتاج الملابس من أكثر الأنشطة استهلاكاً للمياه، حيث يتطلب إنتاج زوج واحد من الجينز ما يصل إلى 7500 لتر من المياه، في وقت لا يتوفر فيه 42.5% من سكان بنغلاديش على مياه شرب نظيفة وآمنة. إن هذا الوضع يطرح سؤالاً مهماً: هل يجب أن تكون الحاجة إلى الظهور بمظهر عصري أكثر أهمية من ضمان توفير مياه شرب آمنة للجميع؟

بالإضافة إلى أن صناعة الملابس، خاصة القطن، تستهلك كميات هائلة من المياه. على سبيل المثال، لزراعة القطن اللازم لإنتاج قميص واحد قد تحتاج إلى حوالي 2,700 لتر من الماء، وهو ما يعادل كمية الماء التي يحتاجها شخص لشربه طوال ثلاث سنوات. فالمياه المستخدمة في زراعة الألياف وتنظيف الملابس غالباً ما تحتوي على مبيدات حشرية وأسمدة كيميائية. هذه المواد الكيميائية يمكن أن تتسرب إلى المجاري المائية، مما يؤدي إلى تلوث الأنهار والبحيرات ويؤثر سلباً على الحياة المائية.

المخاطر الاجتماعية:

في بعض الأحيان، تعمل شركات الموضة في مصانع تتعرض فيها العمالة لظروف عمل قاسية، بما في ذلك الأجور المنخفضة وساعات العمل الطويلة وسوء المرافق. ويمكن أن تستغل بعض الشركات العمالة الرخيصة في الدول النامية، مما يؤدي إلى تفاقم الفجوة الاقتصادية وعدم العدالة الاجتماعية.

تُعَد بنجلاديش مركزًا شائعًا لتوريد الملابس لشركات الملابس نظرًا لإمداداتها الكبيرة من العمالة الماهرة والتكنولوجيا الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، يتقاضى العمال البنجلاديشيون أجورًا زهيدة للغاية، مما يجعل بنجلاديش منطقة يمكن لشركات الأزياء السريعة فيها إنتاج كميات كبيرة من الملابس بأسعار أقل. ونظرًا لأن الحد الأدنى للأجور في بنجلاديش أقل من الحد الأدنى للأجور في البلدان المجاورة الأخرى مثل الصين وكمبوديا وفيتنام، فإن الشركات تنظر إلى بنجلاديش كمصدر مثالي للعمالة الرخيصة. ويبلغ متوسط ​​دخل عامل الملابس شهريًا يتراوح بين 25 إلى 75 دولارًا. ويضطر العديد من العمال إلى العمل الإضافي لمدة 18 ساعة يوميًا دون أجر إضافي أو تعويض.

ولكن لماذا يعمل العمال البنغاليون في صناعة الأزياء؟ في الوقت الحالي، يعيش 35 مليون شخص تحت خط الفقر في بنجلاديش. ومعظم المواطنين على استعداد لقبول أي وظيفة تساعدهم في إعالة أنفسهم وأسرهم، مهما كانت الأجور هزيلة. وكثيرون منهم لا يستطيعون تحمل تكاليف وجبة واحدة في اليوم ويعيشون حياتهم في حالة شديدة من الجوع وسوء التغذية.

المخاطر الاقتصادية:

تسهم الشركات الكبرى في صناعة الأزياء بشكل كبير في خلق ضغوط على المستهلكين من خلال الترويج لأساليب حياة تتطلب إنفاقاً مفرطاً على الموضة، مما يمكن أن يؤدي إلى تراكم الديون والاستهلاك المفرط. تعتمد صناعة الموضة على استراتيجيات مثل "التغيير السريع" و"الزمن السريع"، مما يؤدي إلى إنتاج كميات ضخمة من الملابس التي قد لا تكون مطلوبة في النهاية، مما يسهم في إهدار الموارد.

تعتبر صناعة الأزياء من الصناعات الحيوية التي تلعب دوراً كبيراً في دفع عجلة الاقتصاد العالمي. فهي تُعد واحدة من المصادر الرئيسية للقيمة الاقتصادية، حيث إذا قُورنت بالناتج المحلي الإجمالي للدول، فإن صناعة الأزياء العالمية كانت لتحتل المرتبة السابعة كأكبر اقتصاد في العالم، وفقًا لتقرير حالة الموضة لعام 2017 الصادر عن شركة ماكينزي. قبل جائحة كوفيد-19، كانت إيرادات صناعة الأزياء العالمية تُقدَّر ما بين 1.7 تريليون دولار و2.5 تريليون دولار، وفقاً لتقارير بحثية من يورومونيتور وماكينزي.

فالشركات تساهم بشكل كبير ليس فقط في جذب المستهلكين لها بل في تغير النمط الاستهلاكي من خلال  الضغوط على المستهلكين من خلال مجموعة من الأدوات التي تشكل العوامل النفسية ونذكر منها:

الترويج لأساليب حياة محددة

 فالشركات تستخدم حملات إعلانات مكثفة للترويج لمنتجاتها كرموز للنجاح والتميز، هذه الحملات قد تعرض الملابس كرمز للفخامة أو الأناقة، مما يدفع الناس للشعور بأنهم بحاجة إلى هذه الملابس ليكونوا على مستوى معين من النجاح الاجتماعي، وتبدأ المحاكاة التنافسية من الطبقات الأقل دخلاً ترتدي الأزياء الفخامة من أجل محاكاة اجتماعية للطبقات العليا. كما يتم التعاون مع المشاهير والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقوم الشركات بخلق صورة نمطية للتسوق والموضة تجعلها تبدو ضرورية لتحقيق صورة معينة أو الانتماء إلى مجموعة اجتماعية معينة.

"الموضة السريعة" وضغط الاستهلاك:

تقوم الشركات بتقديم مجموعات جديدة من الملابس بشكل متكرر، مما يعزز ثقافة "الموضة السريعة" ويشجع على شراء ملابس جديدة بشكل مستمر، وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى زيادة في استهلاك الملابس، حيث يسعى الناس لمواكبة أحدث الصيحات في عالم الموضة، كما يلعب  أسلوب الترويج لعروض ترويجية وخصومات تجعل المستهلكين يشعرون بأنهم يجب عليهم شراء المزيد من الملابس لتجنب تفويت الصفقات، مما يؤدي إلى إنفاق مفرط.

الديون والضغط المالي:

تشجع بعض الشركات على استخدام بطاقات الائتمان أو خطط الدفع بالتقسيط لشراء الملابس، مما قد يؤدي إلى تراكم الديون. فالناس قد يشترون أشياء لا يستطيعون تحمل تكلفتها فعلياً، مما يؤدي إلى مشاكل مالية لاحقاً، وهذا ما توفره بعض شركات التمويل التي يذهب إليها الشخص لشراء أي منتج تقوم هي بشرائه ثم يقوم الشخص للسداد للشركة على شكل أقساط بفوائد متفق عليها، كما أن الإعلانات والمحتوى التسويقي قد يلعبان على المشاعر، مثل الشعور بالنقص أو عدم الرضا، مما يدفع الأشخاص للإنفاق على الموضة كوسيلة لتحسين شعورهم بالذات.

الاستهلاك المفرط:

التوجهات والمظاهر التي تعززها الشركات تجعل الناس يشعرون بأنهم بحاجة إلى مواكبة أحدث الصيحات لمواكبة الآخرين. هذا الضغط يمكن أن يؤدي إلى شراء غير ضروري وكميات كبيرة من الملابس، مما يساهم في استهلاك مفرط، فالشركات تروج لشراء الملابس كوسيلة لتحقيق إشباع فوري، مما يشجع على القرارات الشرائية السريعة دون تفكير عميق في العواقب المالية أو البيئية.

كل هذه العوامل تجعل من الصعب على الأفراد إدارة نفقاتهم بشكل فعال وتزيد من خطر التورط في الديون أو المشاكل المالية بسبب استهلاك الموضة.

التسويق في صناعة الموضة دوراً أساسياً حيث يستخدم مجموعة من الأساليب والخدع لإقناع المستهلكين بشراء المنتجات، وغالباً ما تتضمن هذه الأساليب استراتيجيات نفسية وترويجية متقدمة تؤثر على قرارات الشراء، ويمكن حصر هذه الأساليب فيما يلي:

الترويج للتفرد والتميز:

تسعى الشركات لجعل منتجاتها ترتبط بالمشاهير أو الشخصيات العامة، مما يجعل المستهلكين يظنون أن شراء هذه المنتجات سيجعلهم يشبهون هؤلاء الأشخاص أو ينتمون إلى نفس فئتهم الاجتماعية. بالإضافة إلى تقديم مجموعات محدودة أو تصاميم حصرية يمكن أن يخلق شعوراً بالندرة والتميز، مما يدفع المستهلكين للشراء بسرعة خوفاً من أن تفوتهم الفرصة.

التلاعب بالإدراك:

تستخدم الشركات استراتيجيات تسعير مثل تقديم "تخفيضات كبيرة" أو "عروض خاصة" بشكل منتظم. في بعض الحالات، يمكن أن يكون السعر الأصلي مبالغاً فيه بشكل مصطنع لتضخيم حجم "التخفيض". كما أن المنتجات التي يتم بيعها بأسعار أعلى تحت مسمى "إصدار محدود" أو "حصري" لخلق انطباع بالندرة والقيمة العالية، مما يدفع الناس للشراء بمبالغ أكبر.

استخدام تقنيات نفسية:

تأثير الطابع الاجتماعي: عرض المنتجات في متاجر أو مواقع إلكترونية مع إشارات لعدد كبير من المشترين أو التقييمات الإيجابية يخلق شعوراً بالثقة لدى المستهلكين ويجعلهم أكثر ميلاً للشراء.

استراتيجيات الإغراء: استخدام الصور الجذابة والملفتة للنظر في الحملات التسويقية لجعل المنتجات تبدو أكثر جاذبية.

الاستغلال العاطفي:

الربط بالعواطف: الشركات غالباً ما تستخدم قصصًا عاطفية أو رسائل تسويقية تركز على مشاعر مثل الحب، والنجاح، والسعادة، لتعزيز ارتباط المستهلكين بالمنتج.

التسويق عبر الذكريات: استخدام عناصر تثير الحنين أو ترتبط بتجارب سابقة سعيدة للمستهلكين، مما يجعلهم يرغبون في شراء المنتجات لإعادة تجربة تلك المشاعر.

الضغط الاجتماعي:

تسويق الأقران: الترويج للمنتجات على أنها "المفضلة" لدى مجموعة معينة من الناس أو ضمن دائرة الأصدقاء والمعارف، مما يخلق شعوراً بالضغط للانضمام إلى هذه المجموعة.

استراتيجيات "الشراء الآن أو تفويت الفرصة": تقديم العروض المحدودة الوقت أو الكميات القليلة من المنتجات لإجبار المستهلكين على اتخاذ قرار شراء سريع.

التصميم الداخلي للمتاجر والمواقع الإلكترونية:

التخطيط الجيد: تصميم المتاجر بشكل يجعل التجربة أكثر جاذبية ومريحة للمستهلكين، مما يشجعهم على الاستمرار في التسوق.

التصفح والتصفية: تصميم المواقع الإلكترونية بحيث يتم عرض المنتجات الأكثر ربحاً أولاً، أو استخدام تقنيات تصفية تجعل من الصعب على المستهلكين العثور على منتجات خارج نطاق التسويق المحدد.

كل هذه الأساليب تهدف إلى التأثير على قرارات الشراء بطرق غير مباشرة، مما يجعل المستهلكين يشعرون بأنهم بحاجة إلى المنتجات التي يتم ترويجها، حتى وإن لم تكن هذه الحاجة ضرورية في الواقع.

خفايا شركات صناعة الموضة:

بالرغم من المساوئ السابقة التي تحدثنا عنها من خلال استخدام شركات الموضة أساليب الإغراء والاستغلال لجذب المستهلكين، ودورها في تغير الثقافات الاجتماعية، ومساهمتها الكبيرة في تلوث البيئة، لا يزال هناك جوانب خفية تنم عن وحشية هذه الشركات، وهذا يبين لنا مدى مخاطر هذه الشركات، وتحديد أهدفها الربحية تحت أي ظرف وأي سبب، في العديد من الأماكن حول العالم، يعاني الفقراء من نقص حاد في الملابس الأساسية، وهذا يتسبب في تحديات كبيرة تتعلق بالكرامة والصحة والفرص. في الوقت نفسه لا تجد الشركات مانعاً أخلاقياً من حرق الملابس بملاين الدولارات من أجل الحفاظ على المخزون ومتوسط الأسعار!!!! 

تعد شركة بربري  واحدة من أشهر الشركات التي قامت بهذا الأمر حتى وقت قريب. في عام 2017، أحرقت الشركة ملابس بقيمة 28.6 مليون جنيه إسترليني - وهو رقم تصدر عناوين الأخبار العالمية . بحلول سبتمبر 2018، وبعد تدقيق إعلامي مكثف، أعلنت بربري أنها توقفت عن حرق الملابس على الفور. فلك أن تتخيل هذا الحجم من الملابس وهذه الأموال التي تحرق من أجل الفاظ على المخزون وأسعار منتجات العلامة التجارية، في الوقت التي تعيش قرى بأكملها في أفريقيا عاريا لا يجدون ما يستر جلودهم تحت أشعة الشمس الحارقة، أو من زقوم البرد القارص.

وقد قدمت الشركات حجج لهذه الجريمة مفادها أن تدمير الملابس يشكل حماية ضد التزوير ــ فإذا بيعت كميات كافية من الملابس بأسعار رخيصة بحيث تنتهي في أيدي خاطئة لتقليدها، فإن الملكية الفكرية للعلامة التجارية تصبح معرضة للخطر. والواقع أن التزوير صناعة ضخمة وغير قانونية تبلغ قيمتها 450 مليار دولار ــ حيث يتم استغلال الأشخاص الضعفاء مثل المهاجرين غير الشرعيين بانتظام في الحصول على عمالة منخفضة التكلفة، بما في ذلك في المملكة المتحدة. ووفقاً لمجموعة مكافحة التزوير في المملكة المتحدة، فإن جرائم الملكية الفكرية تساعد في  تمويل أنواع أخرى من السلوك غير القانوني، بما في ذلك تهريب المخدرات والأسلحة والبشر.

ولكن لماذا تحترق العلامات التجارية؟ 

 هناك حقيقة مفادها أن التخفيضات الضخمة قد تضر بصورة الشركة باعتبارها شركة حصرية ومطلوبة دائماً؛ فصف من رفوف التخفيضات الفوضوية في متجر فاخر يبيع حقائب يد تكلف أكثر من متوسط ​​دخل الشخص العادي في شهرين لا يصرخ بالضبط "هذا استثمار يستحق". وإذا أصبح السوق مشبعاً بالمنتجات المخفضة السعر، فقد يؤثر ذلك سلباً على هيبة العلامة التجارية ــ تحتاج العلامات التجارية إلى أن تبدو أسعارها المرتفعة مبررة، والحصرية جزء أساسي من ذلك. وفي حين تدير العديد من الشركات الراقية منافذها الخاصة، فإنها ربما تكون أقل استعداداً لبيع المخزون غير المباع للسلاسل ــ فمن الذي سيدفع ثمن معطف من الكشمير إذا كان من الممكن أن ينتهي به المطاف في TK Maxx في غضون أسابيع قليلة؟

وكل هذه الحجج ليست إلا حجج واهي فارغة، حتى وإن كانت هذه الشركات تريد أن تحافظ على هذه الميزة المزعومة في سوق المنافسة العالمية، كان من الممكن أن يتم إعادة تدويرها وإرسالها إلى أناس لا يعرفون شيئاً عن العلامة التجارية، ولم يسمعوا من قبل عن الملكية الفكرية!!!!!

ولم تقف الانتهاكات عند هذا الحد ففي  بنغلاديش التي تعتبر ثاني أكبر منتج للملابس في العالم، حيث تعتمد العديد من شركات الملابس على هذا البلد نظراً لتوفر عدد كبير من العمال المهرة المستعدين للعمل بأجور منخفضة. لكن هذه الممارسات أدت إلى ظروف عمل غير أخلاقية، مثل تدني أجور العمال، وبيئات العمل غير الآمنة، واستخدام عمالة الأطفال. ومن جانب آخر، شهدت الأنهار في بنغلاديش تلوثاً شديداً بسبب أصباغ المنسوجات والنفايات الصناعية والملابس المهملة، مما حرم الآلاف من المواطنين من مياه الشرب النقية. ، نظراً لأن بنغلاديش دولة نامية لا تتمتع بنفس مستوى التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي تتمتع به الدول المتقدمة، فإنها تواجه تحديات كبيرة. تنفق بنغلاديش غالبية مواردها على الإسكان والغذاء، حيث يعيش العديد من المواطنين في فقر ولا يحصلون على المأوى أو الاحتياجات الأساسية، مما يقلل من قدرتها على تخصيص الأموال لحماية البيئة.

تستغل شركات الأزياء السريعة العمالة الرخيصة في الدول النامية، مما يساهم في تفاقم القضايا البيئية مثل تلوث المياه وانبعاثات الكربون. بنجلاديش تحتل المرتبة الخامسة في تقرير جودة الهواء العالمي لعام 2022، وبما أن إنتاج الملابس يعد نشاطاً بارزاً في هذه البلدان، فإن المشكلات البيئية تكون أكثر وضوحاً فيها مقارنة بالدول المتقدمة. وفي نهاية المطاف، تعاني البلدان الأقل تجهيزاً من الكوارث البيئية بشكل أكبر.

تسهم شركات الأزياء السريعة التي تعتمد على المصادر الخارجية في تفاقم هذه المشكلة. فبسبب التغيرات المستمرة في اتجاهات الموضة، تقوم هذه الشركات بتغيير أنواع الملابس التي تنتجها كل بضعة أسابيع، مما يؤدي إلى تراكم كميات هائلة من الملابس في مكبات النفايات والأنهار. هذا التراكم يسهم في رفع مستويات المياه ويجعل الفيضانات أكثر شيوعاً، مما يؤدي إلى تدمير البنية التحتية، وتهجير السكان، وتعريض الحياة البحرية للخطر.

أما عن التكلفة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الناتجة عن صناعة الموضة فيمكن توضيحها فيما يلي:

استغلال العمالة . تتعرض ماركات الأزياء السريعة لانتقادات بسبب استغلالها للعمالة الرخيصة في البلدان النامية. وغالبًا ما يواجه العمال أجورًا منخفضة وظروف عمل سيئة وساعات عمل طويلة وغير منظمة. وقد يفتقرون إلى الأمن الوظيفي والنقابات وحقوق العمل الأساسية.

استغلال عمالة الأطفال . تعتمد هذه الشركات على أفقر الناس وتستهدف الأطفال المحرومين الذين وقعوا في دوامة الفقر. وقد وجدت دراسة استقصائية أجريت في مصنع للنسيج في الهند أن 60% من الموظفين كانوا دون سن 18 عامًا عندما بدأوا العمل.

ظروف العمل غير الآمنة . تضع العديد من المصانع التكاليف المنخفضة في الاعتبار قبل السلامة، مما يعرض حياة العمال للخطر. تسبب انهيار مبنى رانا بلازا في بنغلاديش عام 2013 في وفاة 1100 شخص.

التعرض للمواد الكيميائية السامة . تُستخدم آلاف المواد الكيميائية الصناعية لإنتاج الأزياء السريعة. يتعرض عمال المصانع للمواد الكيميائية المعروفة بأنها تسبب السرطان ويستنشقونها. والعاملون من ذوي الأصول العرقية المختلفة الذين يتعرضون لمستويات أعلى من التعرض للمواد الكيميائية السامة يشكلون عنصرية بيئية .

في ختام هذا المقال، يتضح أن الثقافة السائلة التي تسود صناعة الموضة اليوم تُمثل تحديات متعددة الأبعاد تؤثر بشكل عميق على الهوية الفردية والمجتمعية، بالإضافة إلى المخاطر البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي ترتبط بها.

إن التغير السريع في اتجاهات الموضة، الذي يقوده البحث المستمر عن التجديد والابتكار، لا يؤثر فقط على كيفية تعبير الأفراد عن هويتهم الشخصية، بل يعزز أيضاً استهلاكاً مفرطاً يؤدي إلى تراكم الديون والإفراط في الشراء. هذا التوجه يساهم في إهدار الموارد ويزيد من التلوث البيئي، حيث تنتهي كميات هائلة من الملابس في مكبات النفايات والمسطحات المائية، مما يعرض البيئة والأحياء البحرية للخطر.

من الناحية الاقتصادية، تضيف هذه الممارسات ضغوطاً كبيرة على المستهلكين والشركات على حد سواء، مما يعكس تفشي الفجوة بين استهلاك الموضة والقدرة الاقتصادية على التعامل مع تبعاته. أما اجتماعياً، فإن تلك الضغوط تساهم في تعزيز التفاوت وعدم الاستدامة في بيئات العمل، مما يبرز ضرورة إعادة تقييم استراتيجيات صناعة الأزياء لتحقيق التوازن بين الابتكار والاستدامة.

إن الحلول الممكنة لمواجهة هذه التحديات تتطلب تغييرات جذرية في كيفية تعاملنا مع الموضة، بدءاً من تعزيز الوعي بالاستدامة والتقليل من الاستهلاك المفرط، وصولاً إلى دعم المبادرات التي تركز على الأزياء المستدامة وإعادة التدوير. فقط من خلال تبني ممارسات أكثر وعياً وابتكاراً يمكننا تحقيق توازن بين التمتع بالموضة والاعتناء بكوكبنا وحماية حقوق الأفراد.

تم نسخ الرابط