الإثنين 16 سبتمبر 2024
الايام المصرية
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

كان القرنان الرابع والخامس الهجريان زمنَ استواء علوم اللغة العربية على سوقها، وكمال أركانها؛ من: نحوٍ، وصرفٍ، وأدبٍ، وعلمِ لغةٍ، وعروضٍ وقوافٍ وبلاغةٍ بفروعها، غير علمٍ واحد تأخَّر اكتماله واستقلاله حتى منتصف القرن الثامن الهجري.

أمَّا هذا العلم فهو علم الوضع اللغوي، وأما مؤسسه فهو عَضُد الدِّين الإيجي (ت756هـ)، وسأبدأ بعرض سيرته موجزة للاطلاع على عقليته ومؤهلاته التي مكَّنته من نحت هذا العِلم، ثم أعرِّف به محاولًا تقريبه قدر الإمكان.

أما عَضُد الدين الإيجي فهو الإمام العلامة القاضي عَضُد الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن ركن الدين أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي البكري المطرِّزي الشيرازي، ولد في بلدة إيج بشيراز ببلاد فارس على اختلافٍ في تاريخ ميلاده، وتمكَّن من علوم عدة هي: الفقه، والمنطق، والنحو، والبلاغة، وعلم الأصول، وعلم الكلام، فقد جمع بين العلوم العربية العقلية والنقلية، وساعده على التمكن من هذه العلوم شيوخه، ومنهم: الشيخ زين الدين الهنكي، والشيخ الإمام فخر الدين أبو المكارم أحمد بن الحسن الجاربردي. 

وبلغت مكانته أن تولى القضاء بمدينة شيراز، وصار قاضي القضاة، وكان له مال كثير كان ينفقه على طلاب العلم، وقد طرقته نكْبة بسبب خلافه مع أمير كرمان أدت إلى سجنه في قلعة دريميان بإيج حتى توفي فيها عام(756هـ).

 وتمثَّلت آثاره العلمية في تلاميذه وكتبه؛ أما تلاميذه فكانوا عظماء مثله منهم: الإمام شمس الدين محمد بن يوسف بن علي بن عبد الكريم الكرماني (ت786هـ)، وقد لازم الإمام الإيجي اثنتي عشرة سنة، والإمام ضياء الدين عبد الله بن سعد الله بن محمد العفيفي القزويني المصري المعروف بالقِرمي وبابن قاضي قِرم (ت 780هـ)، والإمام العلامة سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني (ت792هـ)، وغيرهم.

وأمَّا مؤلفاته فأهمها: المواقف في علم الكلام وهو كتاب عظيم في بابه، اختصره في كتاب آخر سماه عيون الجواهر، وله أيضًا العقائد العضُدية، وآداب البحث في علم الكلام، وشرح مختصر ابن الحاجب في علم الأصول، وإشراق التواريخ، والمدخل في علم البلاغة، والفوائد الغياثية في علم البلاغة أيضًا، وتحقيق المقاصد وتبيين المرام، وآداب البحث، والشاهد في علم الأخلاق، وغيرها. 

وتتميز مؤلفاته بالتكثيف الشديد والإيجاز، فكثير منها خلاصات قد تكون في عدة سطور مثل آداب البحث والمناظرة، ورسالة الشاهد في الأخلاق، أو صفحة ونصف مثل رسالته الوضعية؛ لذلك يكثر شارحوها من بعده.

هذا عن ترجمته والاطلاع على ثنايا عقليته وثقافته التي هيَّأته لنحت علم جديد كان آخر علوم اللغة العربية وضعًا.

وأما العلم فهو –كما مرَّ- علم الوضع اللغوي، ويعرف هذا العلم اصطلاحًا بأنه العلم الذي يبحث عن أحوال اللفظ العربي من حيث ما يُعرف به شخصية الوضع ونوعيته وخصوصه وعمومه. والوضع يُقصد به تعيين اللفظ بإزاء المعنى بحيث يُفهم منه هذا المعنى.

أمَّا عن مباحثه المتداولة فهي تقسيم الوضع بطرق مختلفة؛ فقد تقسِّم الوضع إلى: شخصي مثل إنسان وزيد، ونوعي مثل المشتقات.

وقد يُقسَّم الوضع إلى: تحقيقي مثل المشتقات والأجناس، وتأويلي مثل المجازات والكنايات.

وقد يُقسَّم إلى: خاص الخاص مثل زيد وعمرو، وعام العام مثل الإنسان والحيوان، وعام الخاص مثل الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة والحروف.

وقد يقسَّم إلى: كُلِّي مثل المصادر واسم الجنس والفعل والمشتقات، وجزئي مثل الأعلام والضمائر وأسماء الإشارة والموصولات والحروف، وكل قسم مما سبق تحته تقسيمات.

والشرارة التي قدحت هذا العلم هي انشغال النحاة منذ سيبويه(ت180هـ) بالتفريق بين اسم الجنس وعَلَم الجنس، ثم عالجه البلاغيون للتفريق بين الحقيقة والمجاز، وظلوا جميعًا يستخدمونه في مباحث جزئية دون نظرة كلية.

وظلَّ عِلْما بينيًّا حتى نحت منه عَضُد الدين الإيجي (ت756هـ) عِلمًا مستقلا في رسالته "الرسالة الوضعية"، صغيرة الحجم عظيمة النفع، التي شكلت حركة علمية كبيرة دارت حولها؛ من نسجٍ على منوالها، وشرح لها، وشرح لشرح لها، ونظمها، وتعميق لبعض مباحثها، حتى بلغت الكتب حول هذا العلم مئة وثمانون مؤلَّفًا تقريبًا غالبها ما زال مخطوطًا، وظلَّ يُدرَّس لطلبة الثانوية الأزهرية ثم لطلبة كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف حتى منتصف القرن الماضي، ثم توقف تدريسه في معاهد العِلم، ونُسي تمامًا، إلا من بحوث قليلة في مجلات متخصصة، وربما السبب في ذلك صعوبته؛ حيث يعتمد على تقسيمات عقلية صعبة التصور مثلها مثل المنطق، فهو يقوم على وضع قواعد فوق لغوية، أو استخلاص عِلَّة العِلل التي تحكم تقسيم الألفاظ اللغوية والأبواب النحوية والتفريق بين الحقيقة والمجاز. 

ومن الطبيعي جدًّا أن تتأخر نشأة هذا العلم حتى منتصف القرن الثامن الهجري؛ لأنه لم يكن له أن تتضح معالمه إلا بعد أن تكتمل سائر العلوم اللغوية العربية؛ لأنه يستمد فلسفته منها.

 وقد وضعه الإيجي(ت756هـ) شبه مكتمل، تمامًا مثلما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175هـ) علم العروض شبه مكتمل، غير أن لطاش كبري زاده(ت968هـ) والألوسي(ت1924م) رأي مختلف؛ حيث يريان أن هذا العلم لم يدوَّن بعد، ولعلهما كان يملكان نظرة مختلفة لمباحث هذا العلم. 

 فإذا كان ابن خلدون(ت808هـ) هو مؤسس علم الاجتماع الإسلامي، فإن الإيجي(ت756هـ) هو مؤسس آخر علوم اللغة العربية؛ علم الوضع اللغوي. 

د. محمد علي عطا

[email protected]

تم نسخ الرابط