في الركن الجنوبي الغربي من قارة إفريقيا تقع دولة ليبيريا، دولة صغيرة لا باع لها في كرة القدم، ولا يُعرف منتخبُها الملقب بـ”النجوم المنفردة” Lone Stars -إشارة إلى النجمة الوحيدة على علم البلاد- إلا بكونه المنتخب الذي قنع بتمثيله الأسطورة جورج واياه المتوج بجائزة الكرة الذهبية عام 1995.
وعلى مدار تاريخ المنتخب الذي يمثل بلدا مزقته حربان أهليتان طاحنتان، لم تُتح لليبيريا الظهور في المحافل الكبرى سوى مرتين كلتاهما في كأس أمم إفريقيا عامي 1996 و2000 بقيادة واياه في المناسبتين، بل وبإنفاقه من ماله الشخصي على تحضيرات الفريق ورحلاته في كثير من الأحيان.
وفي مطلع عام 2018 تولى واياه رئاسة ليبيريا في عهدة امتدت ست سنوات، ولم يكن برنامجه السياسي هو العنوان الأبرز نحو طريقه إلى مقعد الحكم في العاصمة منروفيا، بل نظر كثيرون إلى رصيده كلاعب كرة قدم تاريخي تولى مسؤولية المنتخب ووحد خلفه الشعب أثناء الحربين، بل إنه هو أول من منح ليبيريا اسما في كرة القدم حين تساءل العالم فجأة عن الدولة التي ينتمي إليها الفائز بالكرة الذهبية… أين تقع؟ وبم تشتهر؟
لم يكن لليبيريا عنوان كروي سوى جورج واياه، بل وحتى خارج كرة القدم بدليل وصوله إلى الرئاسة، وهو أمر يبدو منطقيا، فلم يسبق لأي من مواطني هذه الدولة أن حقق إنجازا رياضيا، فهي بلا رصيد من الميداليات في الألعاب الأوليمبية، بل وحتى خارج الرياضة لم يبرز وجه معروف عالميا من ليبيريا إلا الناشطة ليما غبوي عام 2011 حين فازت بجائزة نوبل للسلام تقديرا لجهودها في إنهاء الحرب الأهلية الثانية.
تأمل بسيط للحالة التي تمثلها ليبيريا ومنتخبها “النجوم المنفردة” يكشف استحالة إسقاط نفس الوضع على بلد بحجم مصر ومنتخبها الملقب بـ”الفراعنة” ككُنية تشير إلى حضارة عمرها آلاف السنين لا ترتبط بشخص ولا بحالة منعزلة ولا نجمة منفردة.
سيكون من العبث الحديث عن مكانة مصر التاريخية الممتدة إلى العالم المعاصر، أو حتى الكلام حول وضعها الرياضي وخصوصا الكُروي، فالقاصي والداني يعلم أنها دولة مؤسسة للاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وشارك منتخبها في منافسات الأوليمبياد عام 1920 وانضم اتحادها الوطني إلى الاتحاد الدولي عام 1923 قبل أن تحصل نسبة كبيرة من الدول على استقلالها أصلا.
ويعرف الجميع أن منتخب الفراعنة هو البطل التاريخي لكأس أمم إفريقيا، وأول من لعب وسجل من القارة في كأس العالم، وكان قاب قوسين أو أدنى من ميدالية أوليمبية مرتين في تاريخه، ويقوم عماده على لاعبي القطبين الأهلي والزمالك اللذين اكتسحا إفريقيا بدءا من عقد الثمانينيات فصاعدا ويقدمان معا أسخن مباراة دربي في القارة.
غير أن بعض حديثي السن، ممن بدءوا الاهتمام بكرة القدم في الأعوام الأخيرة والافتتان فيها بالأندية أكثر من المنتخبات، ونظروا لنجومها بمعزل عن طبيعة اللعبة الجماعية، فجعلوا الإنجازات الفردية والأرقام القياسية هي الفيصل وكأننا نتابع التنس أو الجولف… هؤلاء يريدون وضع مصر وفراعنتها في نفس موضع ليبيريا ونجومها المنفردة لمجرد أن لاعبا مصريا كان قريبا من تحقيق إنجاز جورج واياه ويحظى بكل الحفاوة في العالم الغربي.
ولا مشكلة في الاحتفاء بلاعب مصري، بل وتبرير بعض أخطائه وقرارته غير الموفقة مع منتخب بلاده في بعض الأحيان، فالنجوم لهم وضعية امتياز أغلب الوقت… لكن ليس طول الوقت، فلا يمكن أن يكون أي إنسان على صواب في كل مواقفه المثيرة للجدل، ولا يعقل أن يُتهم كل ناقد لهذه المواقف بالحقد أو الغيرة حتى لو كان مجرد مشجع أو صحفي لا تنافس بينه وبين النجم المعني على الإطلاق.
إن هؤلاء الناشئة من هواة صناعة الأصنام لم يشاهدوا الأساطير الحقيقية للمنتخب المصري في فترة تألقها، لم يعرفوا كي تحامل حسام حسن على نفسه كي يلعب دقائق معدودة في كأس القارات 1999، ولا كيف علّق المصريون آمالهم كثيرا مع كل مرة كان يقفز فيها جمال عبد الحميد في الهواء سعيا لاصطياد كرة عالية برأسه، ولا كيف أن أحمد حسن وهو لم يلعب في أوروبا لنادٍ أكبر من أندرلخت البلجيكي كان صاحب بصمة واضحة في فوز مصر بأربعة ألقاب قارية، أي أكثر من رصيد دول كاملة من الوزن الثقيل مثل نيجيريا وكوت ديفوار.
تميز منتخب الفراعنة على مدار تاريخه بالجماعية في الأداء والروح القتالية، وهما أمران يعرفهما كل خصوم الكرة المصرية، ولم يعرف الفريق الوطني أبدا لاعبا يبخل بجهده للركض وراء كرة قد تبدو بعيدة لكن يمكن اللحاق بها بمزيد من الجهد، أو يتجنب الالتحامات الثنائية خوفا على نفسه من الإصابة التي قد تؤثر على مسيرته مع ناديه.
لم يعرف المنتخب المصري من قبل لاعبا حاول بكل طريقة الحصول على شارة القيادة بكسر قاعدة الأقدمية، ثم عندما نالها تقديرا لنجوميته كان يُعفى من بعض المباريات، ودوما آخر من ينضم إلى المعسكرات، بل وأحيانا أول الراحلين من بطولة تتولى فيها منتخبات أخرى تأهيل وعلاج لاعبيها المحترفين أيضا بأوروبا.
لم يطالبه أحد أن يكون كقائد نيجيريا ويليام تروست إكونج الذي تحامل على إصابة عضلية لمدة أربع مباريات، فهذا فعل يقوم على التضحية الخارجة عن الطبيعة البشرية، ولا يبحث أحد عن أعذار منه، بل كل في الأمر يتعلق بمناصريه المستعدين للشهادة زورا وقلب طبيعة اللعبة وتاريخ المنتخب المصري واختزاله فيمن يتصورونه نبيا مرسلا يظنون أن لا كرامة له في وطنه.
إن هؤلاء المنسحقين فكريا –لا المهزومين فحسب- لا يكادون يصدقون أن رياضيا من بلدهم نال تقديرا كبيرا في الغرب، فكأن شهادة الغرب هي علامة النجاة والأدلة الموجبة للاتباع والتقديس، أو لعلهم يمنون النفس بفعل المثل حين تمنحهم الأقدار الفرصة، فأول ما سيفعلون هو التضرر من بلدهم ومشاكله التي لا ينكرها أحد.
إنهم يريدون صنع جورج واياه بجنسية مصرية، ولا يرون في بلدهم أكثر من ليبيريا، ولا في منتخب الفراعنة أكثر من النجوم المنفردة… بل النجم الواحد الأحد… وأستغفر الله العظيم.