الدكتور محمد علي عطا يكتب: فتحي جمعة …فارسٌ باسلٌ للغةٍ باسلةٍ
مواقف متفرقة حدثت لي مع أستاذنا المرحوم بإذن الله الدكتور فتحي جمعة )ت 2018م) بين جنبات كلية دار العلوم بالقاهرة حفظها الله، يدل كل موقف منها على جانب من جوانب هذه الشخصية الطيبة وعلى القضية التي كانت تشغلها، يحسن ذكرها وتخليدها، فقد درسنا عامين كتابين له: الأول “اللغة الباسلة” والثاني “في العربية ولهجاتها”، وهذه المواقف هي:
-عام (1995م) حدَّثنا في محاضراته بحماسةٍ عن اللغة الباسلة، وكيف أنها خالدة خلود القرآن، وكيف تنكَّر أبناؤها لها كما يظهر في تغليب الأجنبي الممسوخ على العربي الفصيح المملوء بالمعاني الفخمة، وكيف صارت أسماء المحلات مسخًا من الأسماء الأجنبية بحروف عربية.
وذات محاضرة حماسية كتبت له في وريقة – حسب ما أتذكر-: سيدي، لقد جعلتنا نحمل هم اللغة، ونشعر بأن علينا دورا مهما نحوها وتحمسنا له، ولكن ماذا عسانا أن نفعل في تغيير هذا الواقع، وفرض اللغة على الناس.
فقال – حسب ما أتذكر- : أشكر صاحب هذه الورقة على حسن خطه، وسلامة لغته، وجمال أسلوبه، وطيب مشاعره، وأما فرض اللغة على الناس فهذا شأن الدول والمؤسسات لا الأفراد، ويكفيني أن تحمل هذا الهم داخلك.
-وعام (1998م) في موعد الاختبار الشفوي كان في لجنة اختباري مع أستاذنا الكريم مصطفى حلمي حفظه الله ومتعنا به، ودخلت الغرفة وكلي هيبة وكنا طلابا هيابين لأساتذتنا وهم بعيدون عنا فكيف بالمواجهة كفاحًا، ولما وقعت عيني عليهما معًا ازددت خوفًا على خوف حتى اصطكت الركب، وكان هو في المقدمة يسأل وأستاذنا مصطفى حلمي يتابع من بعيد وبيده الورقات والقلم لتسجيل الدرجات.
وقال لي دكتور فتحي جمعة رحمه الله: اختر كتابًا. فنظرت فوجدت الأعمال الكاملة لنزار قباني في طبعة قشيبة من مجلدات ثلاثة تغري اليد بالامتداد إليها لا سيما والقلب يحب الشعر عامة ويحب نزارًا- وقتها- خاصة، ولكني نظرت إلى اللحى الطويلة أمامي وألهمني الله أن ذلك فخٌّ، فعدلت عنه إلى كتاب آخر في السيرة لعله سيرة ابن هشام، وكان هناك كتاب ثالث لا أتذكره، ففتحت السيرة وقرأت وأوقفني وسألني ووفقت، ومن الخوف انعقد لساني في قراءة كلمة (يقتتلان)، فأخذ يطمئنني ويقول : أنت مخوف نفسك ليه أنت كويس.
وبعد ذلك سألني: لماذا لم تختر ديوان نزار: فقلت وعلى وجهي مراسم الاحتقار المفتعل: فيه ألفاظ لا تليق.
ثم توجه بالسؤال لزميلي في الاختبار وكنا ندخل اثنين اثنين، وسأله: ماذا تحفظ من القرآن الكريم: فأجابه: سورة كذا. فقال له دكتور مصطفى حلمي: فقط ؟! فقال الزميل: وسورة كذا. فقال: فقط؟! وكرر ذلك كثيرًا.
فخشيت على نفسي، وكنت أعددت سورة الذاريات حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا ونحوًا وصرفًا وبلاغةً وأسبابَ نزولٍ، وخفت أن يسحباني لغيرها مما لم أُعِد، فلما انتهيا من زميلي في القرآن توجَّه لي دكتور فتحي جمعة رحمه الله وقال لي: وأنت! وقبل أن يكمل ويقول: ماذا تحفظ من القرآن؟ بدأت مباشرة في تسميع سورة الذاريات، فتبسم دكتور مصطفى حلمي ابتسامة خفيفة دلالة على أنه فطن لحيلتي.
وفي النهاية أوصانا – رحمه الله- بالاهتمام بالقرآن وبمكارم الأخلاق عامة، وبأن نكون صورة طيبة لخريج كلية دار العلوم، فانظر إلى حرصه على سلوك الطالب بعد تخرجه.
-وعام (2013م) في لقاء مع قناة لبنانية ضمن فعاليات مؤتمر عن اللغة العربية والتحديات التي تواجهها، كنت أُسألُ وأجاوب ارتجالًا عن اللغة العربية ومشكلاتها، وكأن كتابه “اللغة الباسلة” مفتوحٌ أمام ناظري أغترف منه كيف أشاء!
-وقريبًا قبل أن أُفجع بخبر وفاته كنت فُجعت بخبر استقالته من دار العلوم ولا أعرف السبب!
رحمك الله دكتورنا الكريم دكتور فتحي جمعة، وجزاك خير ما يجزي به معلمًا عن طلابه!
د. محمد علي عطا
[email protected]