سحر الحسيني تكتب: كيف كانت بكل هذا الجمال، وكيف كنتُ بكل هذه اللهفة؟
كيف كانت بكل هذا الجمال، وكيف كنتُ بكل هذه اللهفة؟
لا أتذكر أنه كان يمر يومان دون أن أراها وآنس بصحبتها.
كانت ضاحكةً مستبشرة، تملك وجهًا كالياسمين، إذا نظر إليها المتعَب استراح.
عاشقة للنباتات والورود، لا يكاد يخلو ركنٌ من منزلها من نبتةٍ طبيعية.
ولم تكن لِتخفي شطارتها في المطبخ؛ لكونها تستخدم الزعتر والريحان من ذلك الأصيص الأنيق في شرفتها، ولا مدى استمتاعها بكوب الشاي يعتليه عود النعناع الأخضر المنتمي لعائلتها النباتية.
في ركنها الرائع بشرفتها؛ حيث السجادة الهاند ميد الحمراء، وذلك المقعد الوثير الدافئ، يجاوره منضدة صغيرة عليها صينية نحاس، تحوي تلك السبرتاية الأنيقة وكنكة القهوة رفقاء الظهيرة وقبيل المغرب. جميلة كانت شديدة الخصوصية، تمسك فنجانها الزجاجي الشفاف، معلنةً أنها تحب أن ترى القهوة من خلال الفنجان، مصرحةً عن مقتها لتلك الفناجين الصيني الصماء.
في ركنٍ واضح من المنضدة تضع مصحفها الذي اعتادت القراءة فيه، والذي حفظت صفحاته عن ظهر قلب، ثم كتابًا لأذكار الصباح والمساء وبعض الأدعية، تجاورهما نظارتها الطبية وسُبحتها البنية المحببة لقلبها؛ فهي تحمل رائحة الحرم المدني، فكانت تُقبلها مصلية على سيد الثقلين، محتضنة حباتها اللامعة التي لم تفارقها إلا لحجرتي بجانب فِراشي وبعد وفاتها.
كنت دائمًا ما أرتب يومي على وقت زيارتها، أذهب إليها محمَّلة بضغوط الدنيا الثقيلة وهموم أسرتي الصغيرة المعتادة.
كانت أمي لا تفسح مجالًا لتذمُّر أو لشكوى أو لحديث خارج نطاق (السعادة والرضا).
وكانت دائمًا تتمتم قاصدةً أن نسمع همهماتها:
– من يملك خبرًا سعيدًا أهلًا به، غير ذلك لن أستمع لأحد.
لم أكن لأحكي، ولكن العجيب أن أعباء الدنيا وهمومي كانت تتساقط من على كاهلي رويدًا رويدًا، حتى إذا جاء موعد رحيلي تحولت لفرَاشة رقيقة بيضاء القلب خفيفة الأجنحة مشرقة بألوانها.
وكل مرة كنت أتساءل: كيف استطاعت فِعل ذلك وأنا لم أفضفض ولم أحكِ ولم أندب حظي وأدين القدَر؟
كيف كانت أمي قادرة على أن تحيل آلام الكون ببساطة لأحداث عابرة، دون أن تسمع، ودون أن أنطق؟
أذهب إليها دافعةً قدمي وروحي أمامي دفعًا لأرفرف بجناحيَّ مبتسمة، تقطر السعادة من مسامي لتملأ جنبات كوني في رحلة العودة.
كيف كانت تأخذ بناصيتي لأمكنةٍ أبعد من متاعبي الخاصة، فأعود تاركةً أي وجع أو ألمٍ هناك؟
كانت بفطرة الأم معالجًا نفسيًّا، وطبيبًا روحانيًّا، وبلسمًا، وعناية إلهية.
في صباح قديم يا أمي يشبه هذا، كنا نتحدث كثيرًا، أتلمس أمان أناملكِ ودفء ضمة صدرك.
وكأنكِ اختزلتِ نساء العالمين وقلبي.
ولا زالت أناملكِ ترتب بَعثرات الزمن على تفاصيل وجهي، وتمسح غبار الشوق بصدري…
فقد كنتِ كثيرةً يا أمي، كثيرة جدًّا،
وكأنكِ كنتِ الحياة بأَسرها.
سحر الحسيني