مصطفى علي عمار يكتب: من حكايات الأيام «1»
لرمضان زمان في قرية زهرة بالمنيا رونق وبهجة وفرحة وونس لا ينسَ كنا نجتمع ونحن صبيان قبل شهر رمضان لنكنس أرضية المسجد ونجمع حصيره ونغسله بالماء لاستقبال المصلين في هذا الشهر الفضيل والذاكرين الذين يعتكفون في المسجد للذكر والعبادة
وللحافظين للقرآن الكريم ومراجعته للفوز بمسابقات الحفظ التي يقيمها مشايخ وعلماء القرية.
كنا أيضا نزين الشوارع بحبال معلق بها أوراق وقصاصات من كتب الحساب القديمة، نلزقها في حبال من خيط رفيع بعجين الدقيق ونصنع من الجريد فانوس كبير نكسوه بالأوراق الحمراء والخضراء والصفراء أو من ورق السلفان الشفاف نشتريه من الدكاكين، و نعلقه في منتصف كل شارع وكان الكثير من المنازل يعلقون على مدخل منازلهم أيضاً فانوس مثله كبير..
وعن الاستعداد بالمؤن لرمضان قبل قدومه:
كانت القرية تستعد لرمضان قبل قدومه بشهور، من تجهيز الزبدة والسمن البلدي والجبنة من الجواميس والبقر وعمل الكشك المصنوع من القمح مخلوط بلبن الزير المعتق والتوابل، ويتم عمله في شكل كرات صغيرة وتنشيفه على السطوح لتخزينه لرمضان لعمل طبيخ اللحمة بالكشك وكانت تُجمع الغلال من ذرة شامي وقمح وتطحن في طاحونة القرية المجاورة قريتنا، حيث يتجمع فيها ناس كثيرون كل يوم بزحام شديد قبل رمضان بشهور الكل يتسابق ليطحن غلاله حتى يخبز في منزله العيش البلدي بتاو أو عيش قمح وتخزينه لشهر رمضان…
فكنا في منزلنا نرى والدي يجهز أجوال من القمح وأجوال من الذرة ويحجزها داخل المنزل متراصة على بعض ويقول هذا ما يكون بمشيئة الله طحين لشهر رمضان، ووالدتي تجمع البط السمين والفراخ البلدي والوز والأرنب وتقول هذا نحجزه أيضاً لرمضان حتى يكفينا طوال الشهر الكريم، وقبل رمضان بأسبوع تشعل فرن المنزل لخبيز العيش (البتاو) و خبز القمح بكميات كثيرة تخزن لتكفي شهر رمضان… وكانت تردد رمضان يأتي بخيره وربنا يرزق الناس، فكل هذا من بركات رمضان.. فرمضان كريم والله أكرم.
وكانت الدكاكين في القرية نادرة، ففي كل ناحية من نواحي القرية الأربعة دكان معروف، به البضائع من البقالة والحلوى والخردوات والكيروسين الذي يستخدمه الأهالي لإشعال (الباوابير) للطهي عليها، والمصابيح لإنارة المنازل، التي لم تصلها الكهرباء… فكانت تتزين الكاكين و تمتلئ قبل رمضان بالمكسرات والزبيب وبزجاجات الشربات الأحمر، وشربات المانجة االتي يشتريها الأهالي كمشروب مفضل لديهم على الإفطار وقمر الدين الأصلي، وإبراش البلح العجوة رغم أن القرية تنتج البلح! إلاَّ أن شراء البلح العجوة من الدكاكين كان محبباً لدى الناس، وخاصة من أجل حشو القطايف به.
وخارج الدكان فرشة كبيرة عليها الخضار والطماطم وخضار السلطات وأكياس المخلالات الجاهز.
ومناخ المنيا بصعيد مصر، مناخ قاري صيفه شديد الحرارة ممزوج برطوبة في الجو، وشتاءه صقيع جداً
وعندما كناصغاراً أدركنا رمضان في الصيف في الشهر الخامس كنا في المرحلة الابتدائية في الصفوف الأولى، وعندما وصلنا للشهادة الابتدائية، استطعنا صيامه رغم الحر الشديد في الشهر السابع، كنا نستيقظ من النوم خمولين من شدة الحر ولا ينقذنا غير السباحة والعوم في الترعة التي تمر أمام منازلنا بغرب البلد، وحتى صلاة العصر الترعة تعج بالصبيان والشباب من كل أهالي القرية، كنا نلعب فيها لعبة نسميها “السلطانية” حيث نختار حجراً كبيراً في المياه يتوسط الترعة، ونحارب بعضنا بعضاً، برش المياه وبضرب المياه والضغط عليها لتثير الأمواج بيننا، فيختل التوازن ويجرفنا التيار بعيداً عن السلطانية، ويفوز بالوقوف على الحجر وسط المياه القوي الذي يتغلب على المياه والتيار الشديد، وكان يلقب بالملك الذي يصمد فلا يستطيع إزاحته أحد، بالمياه أو بضغط الموج عليه، وكان غالباً لايصمد أحد كملك يقف على السلطانية، فكنا نتبدل بالفوز كل دقيقة وأخرى وكأننا في معركة للفوز بالوقوف على الحجر، لكنها معركة بدون لمس الأجساد والضرب فيها بالماء وضغط الماء بأيادينا، وعندما يقع الملك يجرفه التيار للخلف فيخرج من الترعة، ثم يعاود ويقذف نفسه فيها من الأمام ليحارب الملك الواقف ليحظى مرة أخرى بالوقوف على السلطانية كملك، وكان البعض من الصبيان والشباب الذين منازلهم بعيدة عن الترعة وقريبة من النيل يقضون نصف يومهم بالسباحة أيضا في النيل، والجلوس على شاطئ النيل أو اللعب بالكرة… وكان في القرية مسجداً أو مسجدين أو ثلاثة لايزيدوا، فراشهم الحصير المصنوع من الزعف والقش أو الحصير البلاستيك، وكانت تفتح جميع شبابيك المسجد وقبابه للتهوية لعدم وجود مراوح أومكيفات كهذه الأيام، كنا نذهب للصلاة وقراءة القرآن، أو نستمع للدروس الدينية، وقبل الآذان بنصف ساعة يأتي بائعوا الثلوج محملين بألواح ثلوج من المدينة يفترشونها أمام منازلهم، أو في دكاكينهم ويبدأون في تكسيرها وبيعها للناس، وكان البيع بقرش صاغ، أو قرشين، أو خمسة قروش لقطعة ثلج وزنها حوالي ربع كيلو جرام، لإضافته للعصائر أو في أكواب الشراب للإفطار على مياه باردة، فلم تكن هناك ثلاجات في المنازل إلا القليل عند بعض الفئات من الموظفين، أما أغلب أهالي القرية كانوا فلاحين مزارعين بسطاء إعتمادهم على الزير أو البلاص أو القلة في المنزل لشرب المياه.. وكانت أفران الكنافة أفران بدائية يشعلونها بالبوص، والقش وعفش القصب، وكان لا يتعدى عدد أفران الكنافة بالقرية الثلاثة، ففي كل ناحية من القرية فرن يبيع الكنافة البلدي، ومن أراد قطايف فعليه الذهاب للمدينة لشرائها…
بعد الفطار والصلاة كان الناس يصلون العشاء والتراويح في المسجد الجامع بالقرية، ثم يتجمعون لسماع المسلسل وكان وقتها يعرض مسلسل رحلة المليون الجزء الأول للفنان المصري محمد صبحي، و يسبقه فوازير فطوطة للفنان سمير غانم وكانت قبلها سابقا فوازير الخاطبة وعروستي للفنانة نيللي، وكان تجمعهم عند من يملك تليفزيون، ولم يكن عدد أجهزة التلفزيون وقتها في القرية إلا معدوداً، وكانت أبيض وأسود فقط، فمن كل مئة بيت تجد تليفزيون، ومن عنده تليفزيون يفترش الحصير أمام المنزل ويعد التليفزيون كي يتفرج الأهل والأحباب أمام المنزل بعد رش الأرض بالمياه في العصرية لتهيئتها لتكون رطبة بعد الإفطار، وكانوا يجتمعون في جوٍّ أسري وكأنهم أسرة واحدة وعائلة واحدة…
وعندما ينتهون من مشاهدة التليفزيون
يذهب كل منهم ويفترش حصيره أو قطعة من القماش القديم أو الخيش أمام منزله من شدة الحر داخل المنازل القليلة من المراوح أو التكيفات… فينام أمامها دون خجل أو كسوف، فكل الناس في القرية أخوة وعند مرور الناس بالشوارع تمشي ببطء حتى لا تزعج النائم أو تقلقه، إلى أن يستيقظ على طبلة المسحراتي الذي يمر في الشوارع حاملاً الطبلة المعلقة في كتفه يقرعها بعصا أو خشبة ليوقظ كل النائمين أمام المنازل وداخلها.. والأطفال الصغار تمشي ورائه فرحة مهللة: أصحى يا نايم.
وكان بعض الأهالي يفتحون منازلهم ومشايخ العائلات يفتحون منادر العائلة طوال شهر رمضان. بعد صلاة العشاء والتراويح لسماع القرآن الكريم من المقرئ الذي تعاقد معه صاحب المنزل أو شيخ العائلة للقراءة طوال الشهر الفضيل، فيما يسمونه السهرة الرمضانية بالمنزل
ويتجمع حول المقرئ أكثرية كبار السن من الرجال يستمعون منه لتلاوة القرآن الكريم، ويتناولون مشروب الشاي والقرفة أو قطعاً من الكنافة والقطايف وبعض الفطائر
وكنا نحن الأطفال نلعب الليل كله ألعاب كثيرة منها لعبة تسمى ضارت والسغماية المشهورة، السباق، والحنجيلة، وعسكري وحرامي.
وأذكر أن لعبة ضارت كانت لعبة غريبة لم أشاهدها في أي مكان غير زهرة، حيث يجلس فيها حوالي أربعة أو خمسة على الأرض القرفصاء متراصين، ويكون هذا هو الفريق الأول والفريق الثاني يتكون من نفس العدد لكنهم يكونوا واقفين ويمرون مسرعين حول الفريق الأول الجالس قرفصاء ويضربونهم على ظهورهم مسرعين حتى يمسك بأحدهم من رجله أي لاعب من الفريق الأول، فحينما يصطاد منهم شخص يهزم بهذا الفريق الثاني ويجلس مكان الفريق الأول ليتلقى الضرب على ظهره لحين أن يمسك بأحد اللاعبين من رجله وتعاد الكرة وهكذا لا تنتهِ اللعبة حتى يقرر الفريقين إنهائها.
ونظل في لهو ولعب وضحكات حتى السحور.
وأحياناً كنا نركب الحمير في أفواج نجري بها وكأننا في عرض عسكري نجوب القرى التي حولنا مسرعين.
وكنا في الليلة التي تُقطع فيها الكهرباء عن القرية نحمل الفوانيس المصنوعة من الزجاج وبداخلها شمعة نشعلها بعود الكبريت فيضيء الفانوس الملون بالأحمر والأخضر والأزرق و نجوب بها الشوارع مرددين وحوي يا وحوي إيوحه.